لماذا نشمت ببعضنا البعض؟ فهم سيكولوجية الشماتة
November 4, 2024
منوعات
شارك هذا :

تشهد الساحة الاجتماعية في تونس تصاعداً ملحوظاً في مشاعر الرضا أو الارتياح عند معاناة الآخرين، خصوصاً عندما تتعلق المعاناة بشخصيات معروفة أو قضايا مثيرة للرأي العام. على الرغم من أن هذه الظاهرة قديمة وموجودة في جميع المجتمعات، إلا أن انتشارها في السياق التونسي يعكس أبعاداً نفسية واجتماعية عميقة تحتاج إلى الفهم والتحليل. فما الذي يدفع الأفراد إلى هذا الشعور، وما الأسباب التي تجعل بعضهم يميلون إلى الشماتة أو الرضا، حتى عند غياب الأدلة القاطعة؟ لنلقِ نظرة أعمق على العوامل النفسية والاجتماعية المؤثرة.

البحث عن "عدالة شخصية": أداة نفسية للتعويض عن الشعور بالظلم

في المجتمعات التي تتراجع فيها الثقة بالنظام القضائي أو تشعر فيها الجماهير بأن العدالة قد لا تأخذ مجراها الصحيح، تظهر آليات نفسية تُعرف بـ "العدالة الشخصية". هذه العدالة ليست مكتوبة أو منظمة، بل هي إحساس داخلي يسعى من خلاله الأفراد إلى تعويض مشاعر الظلم أو النقص في العدالة. وتؤكد دراسة من جامعة هارفارد (2021) أن الأشخاص في المجتمعات التي تشعر بالظلم المؤسسي يتخذون من "الشماتة" أو "الرضا" عن معاناة الآخرين وسيلة لتخفيف مشاعر الإحباط.

ويشرح الباحث الاجتماعي رشيد اليحياوي أن هذا الشعور يعكس حاجة الأفراد للطمأنة النفسية، حيث يقول: "حين يشعر الفرد بأن نظام العدالة قد لا يحقق العدالة الكاملة، يبدأ بالبحث عن وسائل أخرى تعويضية، كالشعور بالرضا عند رؤية شخص آخر يواجه مصاعب، فيتولد لديه إحساس وهمي بأن العدالة قد أُعيدت إلى مسارها، ولو على نحو شخصي وغير مباشر."

الإعلام وتأثيره في تكوين المشاعر الجمعية

تؤدي وسائل الإعلام دوراً محورياً في تشكيل نظرة المجتمع تجاه القضايا والأشخاص، وقد تساهم، في بعض الحالات، في تغذية مشاعر الرضا عن معاناة الآخرين. فعندما يتم تداول قضايا متعلقة بالشخصيات العامة بأسلوب مكثف ومبني على الإثارة أو الشائعات، يبدأ الجمهور في تكوين انطباعات غير مكتملة، تتأثر كثيراً بالانفعالات وليس بالحقائق. ويشير الباحث في الإعلام خالد الجلاصي إلى أن "التغطية المكثفة وغير المتوازنة لبعض الأحداث، خاصة تلك التي تتعلق بشخصيات معروفة، قد تخلق انحيازاً غير واعٍ لدى الجمهور، مما يجعله يتعاطى مع هذه القضايا بمشاعر الشماتة أو الارتياح".

وتشير دراسة أجرتها جامعة ستانفورد (2019) إلى أن تكرار القصص المثيرة حول فشل أو مشاكل الآخرين، يمكن أن يؤدي إلى تطبيع الشماتة كظاهرة مجتمعية، حيث يتعود الأفراد على رؤية معاناة الآخرين من دون الانخراط العاطفي فيها. وتُبرز الدراسة أن الإعلام قد يسهم في خلق "ذاكرة جماعية" تعتمد على الانطباعات أكثر من الحقائق، ما يُسهِّل انتشار مشاعر الشماتة.

آلية دفاع نفسي لتخفيف التوتر الشخصي

من منظور علم النفس، يعتبر الشعور بالارتياح أو الرضا عند تعرض الآخرين لمواقف صعبة آلية دفاعية للتخفيف من الضغط الشخصي أو مشاعر الفشل والإحباط. ويصف الدكتور وليد بن سعيد، المختص في علم النفس الاجتماعي، هذه الظاهرة بأنها "وسيلة نفسية لمواجهة الإحباطات الفردية"، حيث يجد الأفراد، عن وعي أو غير وعي، راحة مؤقتة عند رؤية شخص آخر يعاني، خاصة إذا كان هذا الشخص يتمتع بمكانة اجتماعية أعلى أو نجاحات بارزة. ويشير إلى أن "هذه الظاهرة ليست سوى شكل من أشكال الإسقاط، حيث يقوم الفرد بإسقاط مشاعره السلبية على الآخرين".

وتظهر دراسات في علم النفس الاجتماعي أن التوترات الاقتصادية والاجتماعية تجعل الأفراد أكثر عرضة للبحث عن منافذ نفسية لتفريغ ضغوطهم. ويعني هذا أن الفئات التي تعاني من ضغوط معيشية أو نقص في التقدير الذاتي تكون أكثر ميلاً لتكوين مشاعر الشماتة عند مشاهدة الآخرين في مواقف ضعف.

الشعور بالتفوق الاجتماعي المؤقت كدافع خفي

تفسر العديد من النظريات الاجتماعية مشاعر الشماتة أو الرضا عن معاناة الآخرين كنوع من البحث عن التفوق المؤقت. في المجتمعات التي تتسم بانعدام المساواة الاجتماعية والاقتصادية، يبحث الأفراد عن طرق لتعزيز ثقتهم بأنفسهم، حتى وإن كانت مؤقتة. ويوضح الباحث الاجتماعي سامي المرزوقي أن "رؤية شخص ناجح أو ذو مكانة اجتماعية يعاني، يُشعِر البعض بنوع من التفوق المؤقت، حيث يتحقق لديهم شعور بالتوازن الذاتي".

هذا الشعور بالتفوق المؤقت يُمَكِّن الفرد من استعادة نوع من التوازن الداخلي، ولو لفترة قصيرة، حيث يشعر بأن غيره، ممن كان يعتقد أنهم "أفضل" أو "أقوى"، قد تساووا معه في المعاناة. ويشير المرزوقي إلى أن هذا الشعور ليس سوى "وهم"، إلا أنه يخلق لدى البعض شعوراً زائفاً بالثقة، خاصةً في اللحظات التي يواجه فيها الشخص تراجعاً في مكانته الذاتية أو المهنية.

نحو تبني ثقافة التعاطف والتحقق من المعلومات

في مواجهة هذه الظاهرة المتزايدة، يوصي المختصون في علم الاجتماع والنفس بضرورة تعزيز ثقافة التعاطف ونشر الوعي بأهمية النقد الذاتي والتحقق من المعلومات. ويشدد خبراء مثل الباحثة الاجتماعية ليلى بن إبراهيم على أن "الوعي بأثر المعلومات غير المكتملة وأهمية التروي في إصدار الأحكام يُسهِم في تقليص الميل المجتمعي للشماتة".

وقد أصدرت الجمعية التونسية للصحة النفسية عدة توصيات تتعلق بنشر التوعية عبر حملات إعلامية تدعو إلى التعامل بإنسانية وتعاطف مع مواقف الآخرين، وعدم التسرع في الحكم عليهم بناءً على معطيات غير مكتملة. وتشير الأبحاث إلى أن تعزيز القدرة على التعاطف والتفكير النقدي يمكن أن يسهم في خلق مجتمع أكثر توازناً، ويحد من ميل الناس إلى مشاعر الشماتة غير المبنية على أسس واضحة.